سورة النجم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النجم)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض} خَلقاً وملِكاً، لا لغيره، لا استقالاً ولا اشتراكاً، {ليَجزي الذين أساؤوا بما عمِلوا} بعقاب ما عملوا من السوء، أو: بسبب ما عملوا، {ويجزَي الذين أحسنوا بالحسنى} بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والمعنى: أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم والعلوي والسفلي، وتصرّف فيه بقدرته بين جلاله وجماله، ليجزي المحسن من المكلّفين، والمسيء منهم؛ إذ من شأن الملك أن ينصر أولياءه ويُكرمهم، ويقهر أعدائه ويُهينهم.
وقال الطيبي: {ليجزي} راجع لقوله: {هو أعلم بمَن ضَلَّ...} الآية، والمعنى: إنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ وبمَن اهتدى ليجزي كل واحد بما يستحقه، يعني: أنه عالم، كامل العلم، قادر، تام القدرة، يعلم أحوال المُكلَّفين فيُجازيهم، لا يمنعه أحدٌ مما يريده؛ لأنَّ كل شيء من السموات والأرض ملكه، وتحت قهره وسلطانه، فقوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض}: جملة معترضة، توكيد للاقتدار وعدم المعارض. اهـ.
{الذين يجتنبون كبائِرَ الإثم}: بدل من الموصول الثاني، أو: رفع على المدح، أي: هم الذين يجتنبون. والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الاجتناب واستمراره. وكبائر الإثم: ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو ما رتّب عليه الوعيد بخصوصه. قال ابن عطية: وتحرير القول في الكبائر: إنها كل معصية يُوجد فيها حَدّ في الدنيا، أو توعّد عليها بنار في الآخرة، أو بلَعنةٍ ونحوها. وقرأ الأخوان: {كبير الإثم} على إرادة الجنس، أو الشرك، {و} يجتنبون {الفواحشَ} وهو ما فَحُشَ من الكبائر، كأنه قيل: يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصاً، فيحتمل أن يريد بالكبائر: ما فيه حق الله وحده، والفواحش منها: ما فيه حق الله وحق عباده، {إِلا اللممَ} أي: إلا ما قَلَّ وصَغُر، فإنه مغفور لمَن يجتنب الكبائر، وقيل: هي النظرة والغمزة والقُبلة، وقيل: الخطرة من الذنب، وقيل: كل ذنب لم يجعل الله فيه حَدّاً ولا عذاباً. والاستثناء منقطع؛ لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش.
{إِنَّ ربك واسِعُ المغفرة} حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أو: حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة، وهذا أحسن، {هو أعلم بكم إِذا أنشأكم} في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام {من الأرض} إنشاءً إجمالياً، حسبما مرّ تحقيقه مراراً، {وإِذا أنتم أَجِنةٌ} أي: يعلم وقت كونكم أجنّة {في بُطون أمهاتكم} على أطوار مختلفة، لا يخفى عليه حالٌ مِن أحوالكم، ولا عمل من أعمالكم.
{فلا تُزكُّوا أنفسكم} فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال، وزيادة الخير والطاعات، أو: إلى الزكاة والطهارة من المساوئ، ولا تُثنوا عليها، واهضموها، فقد علم اللّهُ الزكيَّ منكم والتقِيّ، قبل أن يُخرجكم من صُلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم.
وقيل: كان ناس يعملون أعمالاً حسنة، ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجّنا، فنزلت. وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة، والتحدُّث بها، فإنه جائز؛ لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكرها. والأحسن في إيراد الاعتراف والشكر أن يُقدم ذكر نقصه، فيقول مثلاً: كنا جُهالاً فعلَّمنا الله، وكنا ضُلاَّلاً فهدانا الله، وكنا غافلين فأيقظنا الله، وهكذا نحن اليوم كذا وكذا.
قال ابن عطية: ويُحتمل أن يكون نهياً عن أن يُزَكِّي بعضُ الناس بعضاً، وإذا كان هذا، فإنما ينهى عن تزكية السَّمع، أو القطع بالتزكية، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته، وأما تزكية القدوة أو الإمام، أو أحداً، ليؤتم به أو لِيَتَهَمَّمَ الناس بالخير، فجائز، وقد زكَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وغيره، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة؟ للضرورة إليها، وأصل التزكية: التقوى، والله تعالى أعلم بتقوى الناس منكم. اهـ.
وقال في القوت: هذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها، وغرائز جبلاتها، وأول إنشائها من نبات الأرض، وتركيب الأطوار في الأرحام، خَلْقٍ مِن بعد خلقٍ، ومن اختلاط الامشاج بعضها مع بعض، ولذلك عقبه بقوله: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم...} الآية. اهـ.
ثم قال تعالى: {هو أعلم بمن اتقى} فاكتفوا بعلمه عن علم الناس، وبجزائه عن ثناء الناس. وبالله التوفيق.
الإشارة: ولله ما في سموات الأرواح من أنوار الشهود، وما في أرض النفوس من آداب العبودية، رتَّب ذلك ليجزي الذين أساؤوا بوقوفهم مع أرض النفوس في العالم المحسوس، ويجزي الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان، بالحسنى، وهي المعرفة، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح،، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم، ووقوفهم مع عالم الحس، والفواحش، وهو اعتراضهم على الله فيما يبرز من عُنصر قدرته، وتصغيرهم شيئاً مما عظَّم الله، إلا اللمم؛ خواطر تخطر ولا تثبت.
قال القشيري: كبائر الإثم ثلاث: محبة النفس الأمّارة، ومحبة الهوى النافخ في نيران النفس، ومحبة الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة، ولكل واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها، أما فاحشة محبة النفس: فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة، وأما فاحشة محبة الهوى: فحُب الدنيا وشهواتها، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله، والإقبال على ما سواه. وقوله {إلا اللمم} أي: الميل اليسير إلى الهوى والنفس والدنيا، بحسب ضرورته البشرية؛ مِن استراحة البدن، ونيل قليل من حظوظ الدنيا، بحسب الحقوق، لا بحسب الحظوظ، فإنَّ مباشر الحقوق مغفور، ومباشر الحظوظ مغرور. اهـ.
{إِنَّ ربك واسعُ المغفرة} يستر العيوب، ويُوصل إلى حضرة الغيوب. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية، ورقّاكم إلى عالم الروحانية، وإذ أنتم أَجنة في أول بدايتكم في بطون أمهاتكم، في بطون الهوى والغفلة، ودائرة الكون، فأخرجكم منها بمحض فضله، فلا تُزكُّوا أنفسكم، فتنظروا إليها بعين الرضا، أو تنسبوا إليها شيئاً من الكمالات قبل صفائها. قال القشيري: تزيكة المرء نفسه علامة كونه محجوباً؛ لأنَّ المجذوب عن بقائه، المستغرق في شهود ربِّه، لا يُزكِّي نفسه. اهـ. قلت: هذا ما دام في السير، وأما إن حصل له الوصول؛ فلا نفس له، وإنما يُزكّي ربه إذا زكّاها، هو أعلم بمَن اتقى ما سواه.


يقول الحق جلّ جلاله: {أفرأيتَ الذي تولَّى} أعرض عن الإيمان {وأعطَى قليلاً وأكْدى} أي: قطع عطيته وأمسك، وأصله: إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كُدْية- وهي صلابة، كالصخرة- فيمسك عن الحفر. قال ابن عباس: هو فيمن كفر بعد الإيمان، وقيل: في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتّبع رسولّ الله صلى الله عليه وسلم فعيّره بعضُ الكافرين، وقال: تركتَ دين الأشياخ، وزعمتَ أنهم في النار؟ قال: إني خشيتُ عذاب الله، فضمن له إن أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمّل عنه عذاب الله، ففعل ذلك المغرور، وأعطى الذي عاتبه بعضَ ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه. {أعنده علْمُ الغيبِ فهو يَرى} أي: يعلم هذا المغرور أنَّ له حق؟
{أم لم يُنَبَّأُ} يُخْبَر {بما في صُحف موسى} أي: التوراة، {وإِبراهيمَ} أي: وما في صحف إبراهيم {الذي وفَّى} أي: أكمل وأتمّ ما ابتلي به من الكلمات، أو: ما أُمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد اللّهَ عليه. وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفّى به. وعن عطاء بن السائب: عهد ألاَّ يسأل مخلوقاً، فلما قذف في النار قال له جبريل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. وقال الشيخ المرسي: وفَى بمقتضى قوله: {حسبي الله} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «وَفَّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار» وهي صلاة الضحى. وروي: «ألا أخبركم لم سمّى خليلَه الذي وفَّى؛ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: {فسبحان الله حين تُمسون...} إلى {تُظهرون}». وقيل: وفَّى سهام الإسلام، وهي ثلاثون، عشرة في التوبة: {التَّآئِبُونَ} [التوبة: 112] إلخ، وعشرة في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ...} [الأحزاب: 35] وعشرة في المؤمنين: {قد أفلح المؤمنون}. وقيل: وفي حيث أسلم بدنه للنيران، وولده للقربان، وطعامه للضيفان. ورُوي: أنه كان يوم يضيف ضيفاً، فإن وافقه أكرمه، وإلاَّ نوى الصوم، وتقديم موسى لأنَّ صحفه وهي التوراة أكثر وأشهر.
ثم فسّر ما في تلك الصُحف فقال: {ألاَّ تَزِرُ وَازرةٌ وِزْرَ أخرى} أي: أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى، بل كل نفس تستقل بحمل وزرها، يقال: وزر يزر إذا اكتسب وِزراً، وأن مخففة، وكأنّ قائلاً قال: ما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقال: ألاَّ تحمل نفس مثقلة بوزرها وِزرَ نفس أخرى.
{وأن ليس للإِنسان إِلا ما سَعَى} هو أيضاً مما في صحف موسى وإبراهيم، وهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره، إثر بيان عدم انتفاعه من حيث رفع الضرر عنه به، وأما ما صحّ من الأخبار في الصدقة عن الميت والحج عنه، فلأنه لمَّا نواه عنه كان كالوكيل عنه، فهو نائب عنه.
قال ابن عطية: الجمهور أنّ قوله: {وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى} مُحْكَمٌ لا نسخ فيه، وهو لفظ عام مخصّص. ه يعني: أن المراد: الكافر، وهكذا استقرئ من لفظ الإنسان في القرآن، وأما المؤمن فجاءت نصوص تقتضي انتفاعه بعمل غيره، إذا وهب له من صدقة ودعاء وشفاعة واستغفار، ونحو ذلك، وإلاَّ لم يكن فائدة لمشروعية ذلك، فيتصور التخصيص في لفظ الإنسان: وفي السعي، بأن يخص الإنسان بالكافر، أو السعي بالصلاة، ونحو ذلك مما لا يقبل النيابة مثلاً. والحاصل: أن الإيمان سعي يستتبع الانتفاع بسعي الغير، بخلاف من ليس له الإيمان. ه قاله الفاسي: وكان عز الدين يحتج بهذه الآية في عدم وصول ثواب القراءة للميت، فلما مات رؤي في النوم، فقال: وجدنا الأمر خلاف ذلك.
قلت: أما في الأجور فيحصل الانتفاع بسعي الغير، إن نواه له، وأما في رفع الستور، وكشف الحجب، والترقي إلى مقام المقربين، فالآية صريحة فيه، لا تخصيص فيها؛ إذ ليس للإنسان من حلاوة المشاهدة والقُرب إلا بقدر ما سعى من المجاهدة. والله تعالى أعلم.
ثم قال: {وأنَّ سَعْيَه سوف يُرى} أي: يعرض عليه، ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه، {ثم يُجزاه} أي: يجزى العبد سعيه، يقال: جزاه اللّهُ عملَه، وجزاه عليه، بحذف الجار وإيصال الفعل، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسّره بقوله: {الجزاءَ الأوفى} أو: أبدله منه، أي: الجزاء الأكمل بحيث يزيده ولا ينقصه.
الإشارة: أفرأيتَ الذي تولى عن طريق السلوك، بعد أن أعطى نفسه وفلْسَه، وتوجه إلى حضرة مولاه، ثم منَّته نفسُه، وغرّته أنه يصل بلا عطاء ولا مجاهدة، فقطع ذلك واشتغل بنفسه، أو غرّه أحدٌ حتى ردَّه، وضمن له الوصول، بلا ذلك، أعنده عِلمُ الغيب حتى عَلِمَ أنه يصل بلا واسطة ولا مجاهدة؟ فهو يرى عاقبة ما هو سائر إليه. وتصدُقُ الإشارة بمن صَحِبَ شيخاً، وأعطاء بعض ماله أو نفسه، ثم رجع ومال إلى غيره، فلا يأتي منه شيء، أعنده علم الغيب، وأنّ فتحه على يد ذلك الشخصن فهو يرى ما فيه صلاح وفساده؟ وهذا إن كان شيخه أهلاً للتربية، وإلاَّ فلا. أم لم يُنبأ هذا المنقطِع بما في صُحف موسى وإبراهيم، أنه لا يتحمّل أحدٌ عن أحدٍ مجاهدة النفوس ورياضتها؟ وأن ليس للإنسان من لذة الشهود والعيان إلا ما سعى فيه بالمجاهدة، وبذل النفس والفلس، وأنَّ سعيه سوف يُرى؟ أي: يَظهر أثره من الأخلاق الحسنة، والرزانة والطمأنينة، وبهجة المحبين، وسيما العارفين.
وقسَّم القشيري السعي على أربعة أقسام: الأول: السعي في تزكية النفس وتطهيرها، ونتيجته: النهوض للعمل الصالح، الذي يستوجب صاحبه نعيمَ الجنان. الثاني: السعي في تصفية القلب من صَداء ظلمات البشرية، وغطاء عورات الطبيعية، ونتيجته: صحته من الأمراض القلبية، كحب الدنيا والرئاسة والحسد، وغير ذلك، ليتهيأ لدخول الواردات الإلهية. الثالث: السعي في تزكية الروح، بمنعها من طلب الحظوظ الروحانية، كطلب الكرامات، والوقوف مع المقامات، وحلاوة المعاملات، لتتهيأ بذلك للاستشراف على مقام المشاهدات، وحمل أعباء أسرار الذات. الرابع: السعي في تزكية السر بتحليته بالصفات الإلهية، والأخلاق الربانية ليتحقق بمقام الفناء والبقاء، وهو منتهى السعي وكماله. اهـ. بالمعنى.


يقول الحق جلّ جلاله في بقية ذكر ما في الصُحف الأُولى: {وأنَّ إِلى ربك المنتهى} أي: الانتهاء، أي: ينتهي إليه الخلق ويرجعون، إليه كقوله: {وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48] أو: ينتهي علم العلماء إليه ثم يقفون، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا فكرة في الرب» أي: كُنه الذات، وسيأتي في الإشارة: {وأنه هو أضحكَ وأبكى} أي: خلق الضحك والبكاء، أو: خلق الفرح والحزن، أو: أضحك المؤمنين في الأخرة، وأبكى الكافرين، أو: أضحك المؤمنين في العُقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب، {وأنه هو أمات وأحيا} أي: أمات الآباء وأحياء الأبناء، أو: أمات بالكفر وأحيا بالإيمان.
{وأنه خلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نُطفةٍ إذا تُمنَى}: إذ تدفق وتُدفع في الرحم. يقال: منى وأمنى، {وأنَّ عليه النشأةَ الأخرى} الإحياء بعد الموت، {وأنه هو أغنَى} أي: صيّر الفقير غنيّاً {وأَقْنَى} أي: أَعطى القِنْيَة، وهو المال الذي تأثّلته، وعزمت ألاَّ تُخرجه من يدك. {وأنه هو رَبُّ الشِّعْرى} وهو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وكانت خزاعة تعبدها. سنّ لهم ذلك ابن أبي كبشة رجل من أشرافهم، قال: لأن النجوم تقطع السماء عرضاً، والشعرى طولاً، ويقال لها: شعرى العبور. انظر الثعلبي. وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أبي كبشة، تشبيهاً له صلى الله عليه وسلم به، لمخالفته إياهم في دينهم، فأخبر تعالى أنه ربّ معبودهم، فهو أحق بالعبادة وحده.
{وأنه أهلك عاداً الأُولى} وهم قوم هود، وعاد الأخرى: عاد إرم، وقيل: معنى الأولى العدمي لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح، وقال الطبري وغيره: سميت {أُولى} لأن ثُمَّ عاداً آخرة، وهي قبلية كانت بمكة مع العماليق، وهم بنو لُقَيم بن هَزّال. والله أعلم. اهـ. {قلت}: والتحقيق: أن عاداً الأولى هي عاد إرم، وهي قبيلة هود التي هلكت بالريح، ثم بقيت منهم بقايا، فكثروا وعمّروا بعدهم، فقيل لهم عاد الأخيرة، وانظر أبا السعود في سورة الفجر. وها هنا قراءات، وجَّهناها في كتاب الدرر.
{وثَموداً} أي: وأهلك ثموداً، وهم قوم صالح، {فما أبقَى} أحداً منهم، {وقمَ نوحٍ من قبلُ}؛ وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، {إِنهم كانوا أظلمَ وأطغى} مِن عاد وثمود؛ لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حِراك، وينفرون منه حتى كانوا يُحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه، {والمؤتفكةَ} أي: والقرى التي ائتفكت، أي: انقلبت بأهلها، وهم قوم لوط. يقال: أَفَكه فائتفك، أي: قَلَبَه فانقلب، {والمؤتفكة} منصوب ب {أَهْوَى} أي: رفعها إلى السماء على جناح جبريل، ثم أهواها إلى الأرض، أي: أسقطها، {فَغَشَّاها} ألبسها من فنون العذاب {ما غَشَّى} وفيه تهويل لما صبَّ عليها من العذاب، وأمطر عليها من الصخر المنضود.
{فبأي آلاءِ ربك} أيها المخاطب {تتمارَى} أي: تتشكك؟ أي: فبأي نِعَمٍ من نِعَم مولاك تجحد ولا تشكر؟ فكم أولاك من النِعم، ودفع عنك من النِقم، وتسمية الأمور المتعددة قبلُ نِعماً مع أن بعضها نقم؛ لأنها أيضاً نِعَم من حيث إنها نصرة الأنبياء والمرسَلين، وعظة وعبرة للمعتبرين. {هذا نذيرٌ} أي: محمد مُنذِّر {من النُذُرِ الأولى} من المنذِّرين الأولين، وقال: الأُولى على تأويل الجماعة، أو: هذا القرآن نذير من النذر الأولى، أي: إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي إنذِر بها من قبلكم.
{أَزِفَتِ الآزفةُ} أي: قربت الساعة الموصوفة بالقرب من قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، وفي ذكرها بعد إنذارهم إشعار بأنَّ تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة، {ليس لها من دون الله كاشِفةٌ} أي: ليس لها نَفْس مبيّنة وقت قيامها إلاّ الله تعالى، وهذا كقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187] أو: ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها إذا وقعت إلا الله تعالى، فيكشفها عمن شاء، ويُعذِّب بها مَن شاء.
ولمَّا استهزؤوا بالقرآن، الناطق بأهوال القيامة، نزل قوله تعالى: {أفمن هذا الحديث تعجبون} إنكاراً، {وتضحكون} استهزاءً، {ولا تبكون} خشوعاً، {وأنتم سامدون} غافلون، أو: لاهون لاعبون، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء، ليشغلوا الناس عن استماعه، {فاسجدوا لله واعبدوا} ولا تعبدوا معه غيره، من اللات والعزى ومناة والشعْرَى، وغيرها من الأصنام، أي: اعبدوا رب الأرباب، وسارعوا له، رجاء في رحمته. والفاء لترتيب الأمر بالسجود على بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء، ووجوب تلقيه بالإيمان والخضوع والخشوع، أي: إذا كان الأمر كذلك فساجدوا لله الذي أنزله واعبدوه.
الإشارة: {وأنَّ إلى ربك المنتهى} انتهى سير السائرين إلى الوصول إلى الله، والعكوف في حضرته. ومعنى في حضرته. ومعنى الوصول إلى الله: العلم بأحدية وجوده، فيمتحي وجود العبد في وجود الرب، وتضمحل الكائنات في وجود المكوِّن، فتسقط شفيعة الأثر، وتثبت وترية المؤثِّر، كما قال القائل:
وبروْح وراح *** عاد شفعي وترى
وقال الآخر:
فلم يبق إلا الله لم يبق كائنٌ *** فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثم بائنُ
بذا جاء برهان العيانِ فما أرى *** بِعيْنيَّ إلا عينه إذ أعاينُ
إلى غير ذلك مما غَنَّوا به من أذواقهم ووجدانهم.
ثم قال تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} أي: قبض وبسط، أو: أنه أضحك أرواحاً بكشف الحجاب، وأبكى نفوساً بذُل الحجاب، أو: أضحك إذا تجلّى بصف الجمال، وأبكى إذا تجلّى بصفة الجلال، وأنه هو أمات قلوباً بالجهل والغفلة، بمقتضى اسمه القهّار، وأحيا قلوباً بالعلم والمعرفة، بمقتضى اسمه الغفّار، أو: أمات نفوساً عن شهواتها الفانية، وأحيا سبب ذلك أرواحاً بكمال المعرفة فاتصفت بالأوصاف الربانية، أو: أمات أرواحاً بغلبة ظلمة النفس واتسيلائها عليها، وأحيا نفوساً باستيلاء الأرواح عليها، وغلبة ونورها، فحييت وانقلبت روحاً.
وأنه خلق الزوجين، أي: الصنفين: الذكر والأنثى، الحس والمعنى، الحقيقية والشريعة، القدرة والحكمة، كما تقدم. وقال القشيري: الروح كأنه ذَكَر موصوفة بصفة الفاعلية، والنفْس أنثى موصوفة بصفة القابلية، لتحصل نتيجة القلب، بحصول المطالب الدنيوية والأخروية. اهـ. مختصراً. وقال بعضهم: والشيطان كالذَكَر، والنفس كالأنثى، يتولّد بينهما المعصية. اهـ.
{وأنَّ عليه النشأة الأخرى} وهو بعث الأرواح من موت الغفلة، وحشرها إلى موقف المراقبة والمحاسبة، ثم إدخالها جنة المعارف، فلا تتشاق إلى جنة الزخارف أبداً، أو: {النشأة الأخرى}: الجذب بعد السلوك، والفناء بعد البقاء، ثم البقاء بعد الفناء، البقاء الأول بوجود النفس، والثاني بالله. وأنه هو أغنى به بوصول العبد إلى مشاهدته، وأفنَى بأن مكَّنه منه فزاد غناه. وطبّل على ماله، {وأنه هو رَبُّ الشِّعرى}، وهو كل ما عُبد من الهوى والدنيا، فكيف يعبد المربوب اللئيم، ويترك الرب الكريم؟! وأنه أهلك عاداً الأولى؛ النفوس المتفرعنة، والأهوية المُغوية، أرسل عليهم ريحَ الهداية القوية، حتى اضمحلت وخضعت لمولاها، وثمودَ الخواطر، فما أبقى منها إلا خواطر الخير، التي تأمر بالخير، وقوم نوح؛ من القواطع الأربعة: النفس، والشيطان، والناس، والدنيا، فطعنهم عن المتوجه من قَبلُ، أي: مِن قبل أن يتوجه إلينا، لِما سبق في علمنا أنهم كانوا هم أظلم وأطغى من بقية العلائق، والنفس المؤتفكة، أي: المنقلبة عن التوجُّه، أهوى بها في أسفل سافلين، باعتبار أهل عليين، فغشَّاها من الدنيا ومن الخواطر والهموم والغموم، ما غشَّى.
فإذا سَلِمتَ أيها العبد من هؤلاء القواطع والعلائق، وتوجهتَ إلى مولاك، {فبأي آلاء ربك تتمارى} بل الواجب عليك أن تشكر الله آناء الليل والنهار. هذا الذي أخذ بيدك نذيرٌ من النُذُر الأولى، المتقدمين الداعين إلى الله في كل زمان، أزفت الآزفة، أي: قربت ساعة الفتح حين توجهت وانقطعت عنك العلائق، ووجدتَ مَن يُدخلك بحرَ الحقائق، ليس لها من دون الله كاشفة، لا يكشف لك هذه الحقائق إلا الذي منَّ عليك بصحبة مَن يدلك عليه. قال القشيري: أزفت الآزفة: قَرُبَت الحقيقة بالقرب والدنو، وأنت أيها السالك في عينها، وما لك بها شعور، لفنائك في أوصافك النفسانية، ه مختصراً. أفمن هذا الحديث العجيب، والغزل الرقيق الغريب، تعجبون، إنكاراً، وتضحكون استهزاءً؟ قلت: وقد رأيت كثيراً ممن يُنكر الإشارة، ويستهزئ بها، ويتنكّب مطالعتها، وقد قيل: مَن كَرِهَ شيئاً عاداه. ولا تبكون على أنفسكم، حيث حُرمتْ من هذه المواهب، وأنتم سامدون غافلون لاهون، للدنيا طالبون، فاسجدوا لله واعبدوا، وتضرّعوا إليه، حتى يُخرجكم من سجن هواكم ونفوسكم.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

1 | 2